أخبار دوليةأخبار سياسية

موسكو ودمشق بعد الأسد: تحالف مستمر أم تحول استراتيجي

موسكو ودمشق بعد الأسد

فتحت التصريحات الرسمية السورية الأخيرة المجال واسعًا لمناقشة مستقبل الوجود العسكري الروسي في سوريا، الذي يتجسد حاليًا في قاعدتين: قاعدة جوية في حميميم، وقاعدة بحرية في طرطوس، ما يمنح موسكو نفوذًا قويًا في منطقة الشرق الأوسط.

في مكالمة هاتفية بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السوري أحمد الشرع، أكدت الرئاسة السورية على العلاقات الاستراتيجية المتينة بين البلدين، مشيرة إلى انفتاح سوريا على كافة الأطراف بما يخدم مصالح الشعب السوري. من جانبها، أبدت موسكو دعمها لوحدة الأراضي السورية واستقرارها، وهو ما تزامن مع تسريبات حول شحنات من العملة السورية المطبوعة في روسيا، التي من المتوقع وصولها إلى دمشق في الأيام القادمة في ظل أزمة السيولة التي تعاني منها البلاد.

في المقابل، وفي لقاء مع صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، عبّر وزير الدفاع السوري عن استعداد بلاده للسماح لروسيا بالاحتفاظ بالقاعدتين في طرطوس وحميميم، ضمن اتفاقات تخدم المصلحة السورية. وأشار الوزير إلى “تحسن كبير” في الموقف الروسي تجاه الإدارة السورية الجديدة بعد سقوط نظام الأسد، موضحًا أن روسيا كانت في الماضي خصمًا رئيسيًا قبل تدخلها في 2015 لدعم الأسد.

تعاون مستمر رغم التغييرات

روسيا مستمرة في التأكيد على دعمها للسوريين، حيث أعرب نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في 11 فبراير عن استعداد بلاده لمواصلة تقديم المساعدات لسوريا، مؤكدًا أن تغيّر القيادة في دمشق لن يؤثر على سياستها الأساسية في دعم وحدة وسيادة سوريا.

وفي سياق مماثل، صرح مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، بأن “الصداقة” بين روسيا وسوريا لا تعتمد على الوضع السياسي أو القيادة الحاكمة. من جانبها، دمشق تتعامل مع التصريحات الروسية بإيجابية، حيث اعتبر وزير الداخلية السوري في مقابلة مع وكالة “نوفوستي” الروسية في 4 فبراير أن التعاون مع موسكو يخدم المصلحة السورية.

بعد سقوط الأسد، تواصل روسيا التأكيد على أهمية علاقتها مع دمشق، حيث زار وفد روسي رسمي دمشق في 28 يناير، ضم بوغدانوف ومبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف. وقد تمحورت المباحثات حول احترام سيادة سوريا، ودعم روسيا للتغيرات الإيجابية في البلاد، بما في ذلك آليات العدالة الانتقالية.

الوجود الروسي في سوريا: مستقبل غامض

وتزامنًا مع هذه التحركات، أوردت وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية أن روسيا تواجه صعوبات في الحفاظ على قاعدتيها في سوريا، حيث تم تقليص الأنشطة في قاعدة حميميم البحرية، في حين تم سحب بعض العتاد من قاعدة طرطوس، وفقًا لتحليل صور أجرته “بي بي سي”.

المستشار السوري المقرب من دوائر صنع القرار في موسكو، رامي الشاعر، أشار إلى ضرورة عدم استخدام مصطلح “قواعد روسية” في سوريا، موضحًا أن الوجود العسكري الروسي في البلاد يقتصر على تأمين احتياجات أسطول البحرية الروسي في البحر المتوسط، وليس على إقامة قواعد عسكرية ثابتة. الشاعر أكد أن روسيا ليست معنية بإنشاء قواعد عسكرية خارج حدودها.

فيما يتعلق بمستقبل الوجود العسكري الروسي بعد سقوط نظام الأسد، يرى الشاعر أن حجم هذا الوجود سيتم تحديده حسب قرارات القيادة السورية الجديدة، التي ستقرر ما إذا كانت تحتاج إلى الدعم العسكري الروسي. ولفت إلى أن الأهم بالنسبة للشعب السوري هو التركيز على مستقبل سوريا السياسي والاجتماعي، بدلاً من مصير الوجود العسكري الروسي.

فقدان السيطرة تدريجيًا: التحديات الروسية في سوريا

في تقرير نشره معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي “INSS” في 27 كانون الثاني الماضي، تم تسليط الضوء على تراجع قدرة روسيا على الاستفادة من البنية التحتية في سوريا، بما في ذلك قاعدتي “حميميم” و”طرطوس” البحرية. ورغم أهمية هذه القواعد لروسيا في تأمين نفوذها في البحر المتوسط وفي مناطق أبعد، مثل إفريقيا، فإن موسكو تواجه تحديات مستمرة في الحفاظ على سيطرتها عليها. وفقًا للتقرير، تتجسد هذه التحديات في تقليص الأنشطة في قاعدة “حميميم” وانتظار السفن الروسية أسابيع قبل السماح لها بالرسو في “طرطوس”، مما يشير إلى تقلص النفوذ الروسي في المنطقة.

الأزمات اللوجستية والتحديات الإقليمية

تستمر الأزمة اللوجستية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية، مما يفرض ضغوطًا إضافية على روسيا في سعيها للحفاظ على وجودها في سوريا. كما يعزز هذا التحدي، الصعوبات في تأمين طرق الشحن الحيوية التي تعد ضرورية لدعم العمليات الروسية في أفريقيا. ومع القيود المفروضة على حركة الملاحة البحرية عبر المضائق التركية، تتفاقم هذه الصعوبات بشكل كبير.

روسيا في مواجهة القوى الدولية

رغم الضغوط، يؤكد الخبراء أن روسيا لن تتخلى بسهولة عن قاعدتيها في سوريا، حيث يظل هذان الموقعان ركيزتين مهمتين في الحفاظ على نفوذها العسكري والسياسي في المنطقة. يعكف الكرملين على تقديم حوافز لدعم إعادة الإعمار في سوريا، مع التركيز على تقديم مساعدات اقتصادية وتقنية تخفف تبعات العقوبات الغربية، في خطوة تهدف إلى ضمان استمرار احتفاظ روسيا بمواقعها الاستراتيجية.

مقايضات مرنة وتحقيق التوازن

روسيا تسعى لتحقيق توازن بين حاجتها الاستراتيجية للاحتفاظ بقواعدها العسكرية في سوريا وبين الضغوط السياسية والدبلوماسية من القوى الإقليمية والدولية. تظل موسكو حريصة على إظهار دعمها لعملية إعادة الإعمار في سوريا، مع تقديم وعود لدمشق بمساعدات اقتصادية طويلة الأمد، ما يعزز موقفها في المفاوضات المقبلة ويضمن استمرار وجودها العسكري في الشرق الأوسط.

السيناريوهات المستقبلية: روسيا وسوريا ما بعد الأسد

بمجرد سقوط نظام الأسد، أدركت موسكو أهمية الحفاظ على علاقتها مع سوريا من خلال التفاوض على موطئ قدم عسكري مستقبلي. وفي هذا السياق، تستفيد روسيا من القاعدتين العسكريتين لضمان مصالحها في شرق المتوسط وتعزيز حضورها في التنافس الدولي مع حلف “الناتو”، ما يضمن استمرارها كلاعب رئيسي في المنطقة.

وفي ظل تصاعد التوترات الإقليمية، ستظل سوريا على الأرجح جزءًا من المجال الحيوي الروسي، حيث تسعى موسكو إلى تعزيز مكانتها كقوة مؤثرة في الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى