
موقف تونس من التغيير السياسي في سوريا
موقف تونس من التغيير السياسي في سوريا:رغم مرور أكثر من ستة أشهر على سقوط نظام بشار الأسد وصعود حكومة جديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، لا تزال تونس تلتزم الصمت تجاه هذا التحول السياسي الكبير في سوريا، على عكس العديد من الدول العربية التي بادرت إلى إعلان مواقف واضحة، تراوحت بين التهنئة، والدعم، وإعادة العلاقات الدبلوماسية.
فباستثناء بيان مقتضب صادر عن وزارة الخارجية التونسية عقب أيام من سقوط النظام، شددت فيه على وحدة سوريا واحترام إرادة شعبها، لم تُبدِ تونس حتى الآن أي تحرك رسمي أو موقف دبلوماسي مباشر، ما يثير تساؤلات حول دوافع هذا التريث غير المعهود.
علاقات تونس مع نظام الأسد قبل سقوطه
لفهم الموقف التونسي الحالي، لا بد من العودة إلى طبيعة العلاقة التي جمعت تونس بنظام الأسد في السنوات الأخيرة. فبعد أن كانت تونس من أوائل الدول التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق في العام 2012، أعاد الرئيس قيس سعيّد ترتيب أوراق العلاقات منذ وصوله إلى السلطة في عام 2019.
تجلّى هذا التحول في عدة خطوات، منها اللقاءات الرسمية، ورفع مستوى التمثيل الدبلوماسي، وإعادة فتح السفارة التونسية في دمشق، بل إن سعيد عبّر مرارًا عن دعمه العلني لنظام الأسد، خصوصًا في معركة “ردع العدوان” في شمال سوريا، متبنياً الرواية الرسمية للنظام في مواجهة ما سماه “الهجمات الإرهابية”.
وفي القمة العربية في جدة عام 2023، ظهر سعيّد وهو يصافح بشار الأسد علنًا، في مشهد حمل رمزية سياسية كبيرة، ورسالة تضامن واضحة مع النظام السابق في سوريا.
التحول المفاجئ بعد سقوط الأسد
سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024 شكل مفاجأة سياسية في المنطقة، وجاء ضمن سياق حراك داخلي متسارع، تَمثّل في سيطرة فصائل المعارضة على دمشق، وتشكيل حكومة انتقالية برئاسة أحمد الشرع.
وعلى الرغم من أن دولاً مثل السعودية ومصر والأردن سارعوا إلى إرسال إشارات دبلوماسية إيجابية تجاه السلطة الجديدة، التزمت تونس صمتًا لافتًا، مكتفية ببيان خارجي عمومي لا يتضمن أي اعتراف مباشر بالحكومة الجديدة، ولا تهنئة أو تلميح إلى نية إعادة ضبط العلاقات.
هل تخشى تونس من “عدوى” التغيير؟
يرى محللون أن موقف تونس المتردد قد يكون انعكاسًا لمخاوف داخلية، فالرئيس قيس سعيّد، الذي جاء إلى الحكم عبر انتخابات حرة، سرعان ما أحكم قبضته على مفاصل الدولة، وأقصى القوى السياسية المعارضة، وعلّق عمل البرلمان، في مشهد وصفه كثيرون بأنه “انقلاب ناعم”.
وفي هذا السياق، قد يُنظر إلى التجربة السورية الجديدة على أنها تهديد ضمني للنموذج الذي يكرّسه سعيد في الداخل، خاصة إذا ما نجحت في إرساء تجربة ديمقراطية بديلة للنظام السابق.
وفي حديثه للجزيرة نت، يرى الباحث الطيب غيلوفي أن سعيّد “وقف ضد الربيع العربي رغم كونه أحد نتاجاته، ورفض مسار التحول الديمقراطي”، مشبّهًا طريقة تعاطيه مع المعارضة بتكتيك الأسد، وإن اختلفت الأدوات.
ضبابية الموقف التونسي.. حياد أم ارتباك؟
في المقابل، يدافع بعض أنصار الحكومة التونسية عن هذا التريث، معتبرين أنه يعكس سياسة خارجية “رصينة” لا تستعجل اتخاذ المواقف قبل اتضاح المشهد. ويستشهد هؤلاء بمبدأ “عدم التدخل” الذي تتبناه تونس منذ استقلالها، مع التزام الحياد في النزاعات الإقليمية.
لكن محللين آخرين يرون أن هذا الصمت أقرب إلى الارتباك منه إلى الحياد، خاصة أن السياسة الخارجية التونسية اتسمت في السنوات الأخيرة بنوع من الانكماش والتقوقع، كما حدث مع الملف الليبي والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ما أضعف حضور تونس الإقليمي.
ويرى المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي أن “السلطة التونسية كانت في حالة صدمة بعد سقوط الأسد، ولم تكن تمتلك رؤية استشرافية لما قد يحدث، ولهذا بدا موقفها بارداً ومباغتاً”.
موقف تونس بين الحذر السياسي وتوازن المصالح
يشير الصحفي التونسي رياض ساكمة إلى أن التغير المفاجئ الذي شهدته سوريا دفع السلطات التونسية إلى التريث، تفاديًا لأي موقف متسرّع قد يؤثر سلبًا على مصالحها أو على علاقاتها المستقبلية، خاصة في ظل استمرار الغموض والصراع داخل سوريا. ويؤكد أن هذا الحذر يعكس نهجًا معتادًا في السياسة الخارجية التونسية، التي تفضل الانتظار حتى تتضح معالم المشهد قبل اتخاذ أي خطوة دبلوماسية.
وقد شددت وزارة الخارجية التونسية في بيانها الصادر بتاريخ 9 ديسمبر/كانون الأول 2024، على أهمية التمييز بين الدولة السورية، ككيان سيادي، والنظام السياسي الحاكم داخلها، معتبرة أن اختيار النظام هو “حق خالص للشعب السوري، يمارسه بعيدًا عن أي تدخل خارجي”، وهو ما يمكن فهمه كإشارة ضمنية إلى عدم انخراط تونس حتى اللحظة في أي موقف داعم أو معارض للسلطة الجديدة.
هاجس الجهاديين التونسيين في سوريا
من بين العوامل الأكثر حساسية التي تؤثر في حسابات تونس تجاه السلطة الجديدة في سوريا، ملف المقاتلين التونسيين الذين انضموا إلى جماعات متطرفة خلال سنوات الحرب، وخاصة تنظيم الدولة الإسلامية. وتشير تقديرات أمنية إلى أن تونس كانت من أبرز الدول المصدّرة للمقاتلين الأجانب، إذ بلغ عددهم نحو 6500 مقاتل، وفق تقرير لمنظمة “سوفان” الأميركية.
ويعتبر هذا الملف عاملًا ضاغطًا في أي حوار سياسي محتمل بين تونس ودمشق الجديدة، لما يحمله من تعقيدات أمنية وقانونية. ويؤكد الصحفي رياض ساكمة أن عودة بعض هؤلاء المقاتلين إلى تونس بعد انهيار السجون في مناطق النظام السابق، يثير مخاوف حقيقية لدى السلطات الأمنية، خصوصًا في ظل احتمال تسللهم دون رقابة، ما يزيد من تعقيد المشهد الأمني.
ورغم ذلك، يشير الباحث الطيب غيلوفي إلى أن حجم هذا التهديد غالبًا ما يكون مبالغًا فيه، مؤكدًا أن أغلب المقاتلين التونسيين موجودون في سجون “قسد” شرق سوريا، وأن أعداد من قاتلوا ضمن فصائل المعارضة التي ساهمت في إسقاط الأسد، مثل هيئة تحرير الشام، تبقى محدودة نسبيًا.
ويلفت غيلوفي إلى أن الانفتاح الأميركي والأوروبي النسبي تجاه الحكومة السورية الجديدة، ومشاركتها في ترتيبات أمنية إقليمية، يسحب الذريعة من بعض الأطراف في تونس التي تبرّر التأخر في الاعتراف أو الانفتاح على دمشق الجديدة بحجج أمنية.
هل تخشى تونس الضغوط الأمنية؟
تشير بعض التحليلات إلى أن تونس، التي تواجه تحديات سياسية داخلية وهشاشة اقتصادية، قد تكون حذرة من الانخراط سريعًا في علاقات دبلوماسية مع دمشق الجديدة، خشية أن تُطالب بمواقف واضحة أو بإجراءات أمنية مباشرة، مثل تسليم مطلوبين أو التعاون في ملفات المقاتلين السابقين.
ويرجّح مراقبون أن تستثمر دمشق هذا الملف كورقة ضغط لتعزيز الاعتراف بشرعيتها الجديدة، أو لفرض أجندة سياسية على الدول التي خرج منها المقاتلون. ومن هذا المنظور، فإن تونس تجد نفسها في موقف دقيق، يتطلب موازنة بين حماية مصالحها الداخلية، وتفادي الانجرار إلى التزامات دولية غير محسوبة.
ويُذكر أن السلطات التونسية اتخذت مطلع عام 2025 إجراءات أمنية احترازية، تمثّلت في تخصيص محطة مستقلة للرحلات القادمة من تركيا في مطار قرطاج الدولي، وهي خطوة اعتبرها مراقبون إشارة إلى محاولة احتواء أي عودة غير مراقبة لمقاتلين محتملين من سوريا.
ختامًا
تبدو الحسابات التونسية تجاه التغيير السياسي في سوريا معقّدة ومتداخلة، تجمع بين الحذر الدبلوماسي، والهاجس الأمني، والانشغال الداخلي. ورغم أن تونس لم تعلن بعد عن موقف نهائي تجاه حكومة أحمد الشرع، إلا أن استمرار التردد قد يفقدها هامش التأثير في مرحلة إعادة تشكيل الإقليم، ما يجعل من الضروري إعادة النظر في استراتيجيتها الخارجية تجاه دمشق، خصوصًا إذا ما استقر المشهد السوري خلال الأشهر المقبلة.
إقراء المزيد:
سوريا تعلن فتح مجالها الجوي بالكامل أمام حركة الطيران المدني
مرسوم رئاسي جديد يشكّل اللجنة العليا للإشراف على أول انتخابات برلمانية في عهد الشرع
نائب أردوغان: سوريا المستقرة ستنمو بسرعة بعد إسقاط نظام الأسد
الجنوب السوري تحت النيران.. إسرائيل تعترض مسيّرات إيران والحرائق تلتهم الحقول
سقوط بقايا صاروخين إيرانيين في ريف درعا أثناء توجههما نحو إسرائيل