
هل فقدت موسكو قبضتها في سوريا الجديدة: من الهيمنة إلى الاستنزاف؟
هل فقدت موسكو قبضتها في سوريا الجديدة:منذ سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول الماضي، باتت سوريا ساحة لإعادة تشكيل معقدة، لم تقتصر ارتداداتها على الداخل السوري فحسب، بل تجاوزته لتطال توازنات النفوذ الإقليمي والدولي على حدّ سواء. وبين القوى المتدخلة، تبرز روسيا كمثال حيّ على التحوّل من موقع الهيمنة شبه المطلقة إلى وضع ملتبس تتداخل فيه المصالح مع المخاوف، والنفوذ مع الانكفاء.
فهل وجدت موسكو نفسها أمام مشهد غير محسوب؟ أم أنها كانت تتحسّب لهذا اليوم، ونسجت مصالحها بطريقة تجعل الانسحاب خياراً مُكلفاً بل وربما مستحيلاً؟ وما مصير القواعد والاتفاقيات التي وقعتها مع النظام السابق؟ الأهم: كيف ستتعايش موسكو مع سلطة انتقالية قد لا ترى فيها شريكاً موثوقاً؟
حضور عسكري مستمر.. ولكن
رغم الانهيار السياسي للنظام السوري، لم تفقد روسيا حتى الآن موطئ قدمها على الأرض. لا تزال قاعدتا حميميم الجوية وطرطوس البحرية تعملان بكامل طاقتهما، وهو ما يعكس بوضوح تمسك موسكو بأوراقها الاستراتيجية في شرق المتوسط. تستند روسيا في بقائها إلى اتفاقيات طويلة الأمد أبرمتها مع حكومة الأسد، بعضها يمتد حتى عام 2065، وتمنحها حقوقاً تشغيلية لا يُمكن تجاوزها بسهولة من قبل أي سلطة جديدة.
لكن هذا الوجود، على رمزيته وقيمته الجيوسياسية، لم يعد كافياً لحماية النفوذ الروسي من التآكل، خاصة في ظل غياب الحليف الذي كان يُدار المشهد السوري تحت مظلته. فالقواعد قد تبقى، ولكن البيئة السياسية التي كانت تضمن حمايتها تغيّرت جذرياً.
الانتقال من البندقية إلى الاقتصاد
مع تبدل معادلات النفوذ في سوريا الجديدة، لم يكن غريباً أن تُعيد روسيا صياغة أولوياتها، منتقلة من الفعل العسكري المباشر إلى تكريس حضور اقتصادي طويل الأمد. ففي السنوات الماضية، حرصت موسكو على توقيع عدد كبير من العقود في مجالات الطاقة والفوسفات وإدارة المرافئ، وحتى في ملف إعادة الإعمار المستقبلي.
تُدير شركة Stroytransgaz، المدعومة سياسياً وعسكرياً، قطاع الفوسفات في وسط سوريا، وهو ما يمنح روسيا منفذاً اقتصادياً مستقراً نسبياً، حتى في ظل المتغيرات السياسية. وتشير تقارير غربية إلى أن بنية العقود التي صاغتها موسكو تتمتع بمرونة قانونية تسمح ببقائها سارية حتى في حال تغيّرت السلطة الحاكمة.
لكن هذه العقود، وإن بدت أدوات نفوذ في ظاهرها، لم تُفعَّل فعلياً. البيئة غير المستقرة، وغياب التمويل الدولي، واشتداد العقوبات الغربية كلها عوامل حالت دون تنفيذ هذه المشاريع، وجعلت من هذه العقود أقرب إلى أوراق ضغط مؤجلة منها إلى مشاريع قائمة.
نفوذ غير مباشر.. وعبر قنوات غير رسمية
في ظل غياب التأثير المباشر داخل المؤسسات السيادية الجديدة، لجأت روسيا إلى أدوات نفوذ غير رسمية، مثل التأثير في المفاوضات متعددة الأطراف بشأن إعادة الإعمار، أو الضغط عبر حلفاء محليين في بعض مناطق النفوذ، لا سيما في الساحل السوري.
الباحث الروسي أندريه أونتيكوف يؤكد أن موسكو “لا ترى تعارضاً كبيراً مع السلطة الانتقالية حتى الآن، لكنها تطالب بضمانات أمنية لبقاء قواعدها وتعزز تعاونها الاقتصادي معها”. إلا أن هذه الطمأنات قد لا تكفي لضمان استمرار مصالحها وسط متغيرات لا يمكن التنبؤ بها.
روسيا.. بين ضغوط الغرب وتحولات الداخل السوري
من ناحية أخرى، تواجه موسكو تحدياً متزايداً من قِبل القوى الغربية، التي وضعت شرطاً واضحاً: لا إعادة إعمار مع وجود روسي فاعل في سوريا. هذا الشرط يجعل الموقف الروسي أكثر هشاشة، حيث لا تمتلك موسكو الموارد اللازمة لتمويل مشروعات الإعمار بمفردها، ولا تستطيع مجابهة عزلة دبلوماسية طويلة الأمد في بلد أنهكته الحرب.
المحلل سامر إلياس يشير إلى أن “موسكو تجد نفسها مضطرة للتكيف مع واقع جديد يفرض عليها إعادة تعريف دورها، وربما التفاوض على مكانة أقل مركزية”. فروسيا التي اعتادت أن تكون “الراعي الكامل” لسوريا، باتت اليوم أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما القبول بدور أقل نفوذاً، أو مواجهة عزلة دولية وفقدان تدريجي للمصالح.
سوريا ما بعد الزبائنية.. وموسكو أمام اختبار الشرعية
سوريا كانت لعقود نموذجاً للدولة الزبائنية، حيث يقوم النظام السياسي على ولاء شبه كامل لقوة راعية تؤمن الحماية والدعم مقابل التحكم بالقرار السيادي. روسيا، ووريثتها السوفييتية، كانت هذا الراعي. لكن سقوط الأسد أنهى هذا النموذج الكلاسيكي، وفتح الباب أمام بنية سياسية جديدة تحاول التحرر من الإرث التبعي، وتسعى لبناء شرعية داخلية مستقلة.
في هذا السياق، تبدو روسيا أمام تحدٍّ مزدوج: كيف تُبقي على مصالحها في نظام لم تعد تُشكّل مركز ثقله؟ وكيف تضمن استمرار وجودها دون أن تُتهم بلعب دور المعرقل للانتقال السياسي أو المهيمن على الاقتصاد السوري؟
1. إعادة تموضع عسكري حذر
تسعى روسيا للحفاظ على وجودها العسكري في سوريا، خاصة في قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية، اللتين تعتبران من الأصول الاستراتيجية الحيوية لموسكو. ومع ذلك، بدأت موسكو في إعادة تموضع قواتها، حيث انسحبت من بعض المواقع في القنيطرة وريف دمشق، مع التركيز على حماية القواعد الاستراتيجية الثلاث: حميميم، طرطوس، والقامشلي.
2. تفاهمات جديدة مع السلطة الانتقالية
تسعى موسكو إلى الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية عبر مسارات تفاوضية مع الإدارة السورية الجديدة. وصرح ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، بأن روسيا تواصل حوارها مع “القوى المسيطرة” في دمشق لضمان أمن قواعدها. وبحسب تقارير إعلامية، حصلت موسكو على تطمينات مبدئية بعدم استهداف قواعدها.
3. تأثيرات إقليمية ودولية
تراجع النفوذ الروسي في سوريا له تداعيات على مستوى الشرق الأوسط وأفريقيا، حيث كانت القواعد الروسية في سوريا، خاصة طرطوس، تشكل نقطة انطلاق للعمليات الروسية في أفريقيا. ومع فقدان هذه القواعد، تواجه روسيا تحديات في الحفاظ على نفوذها في القارة الأفريقية.
4. مستقبل النفوذ الروسي: بين التكيف والتراجع
بينما تسعى روسيا للحفاظ على نفوذها في سوريا من خلال التفاهمات مع السلطة الانتقالية، إلا أن التحديات الاقتصادية والسياسية قد تدفعها إلى تقليص وجودها العسكري. وفي حال تعثرت المفاوضات مع الإدارة السورية الجديدة، قد تواجه روسيا تحديات كبيرة، ليس فقط في سوريا بل أيضا في أفريقيا، حيث تعتمد على قواعدها السورية لدعم عملياتها هناك.
الخلاصة: نفوذ يتآكل ببطء
رغم ما تمتلكه روسيا من أوراق، فإن التحولات الجارية في سوريا الجديدة تنذر بتراجع تدريجي لنفوذها، ما لم تُقدِم على خطوات تكيف جريئة، تتضمن إعادة النظر في استراتيجياتها، والانفتاح على شراكات جديدة أكثر واقعية. قد لا تكون موسكو قد خسرت كل شيء، لكنها بلا شك لم تعد تمسك بكل شيء كما كانت في السابق.
يبقى السؤال معلقاً: هل تملك روسيا المرونة الكافية لتعيد رسم حضورها في سوريا، أم أن البلاد مقبلة على مرحلة تُغلق تدريجياً فصل الهيمنة الروسية؟
في الختام، يبدو أن روسيا تسعى جاهدة للحفاظ على نفوذها في سوريا، لكن التحديات المتزايدة قد تدفعها إلى إعادة تقييم استراتيجيتها في المنطقة.