مقالات و آراء

تدمر: مدينة صمدت لألفي عام ثم دمرها الصراع السوري

تدمر: مدينة صمدت لألفي عامتتموقع مدينة تدمر الأثرية، التي تقع في قلب البادية السورية، بكل فخامة وجلال وسط الرمال الشاسعة، حيث تقف أعمدتها الحجرية الشامخة على الطريق الرئيسي الذي كان يربط المدينة بمعابدها وأسواقها ومدرج مسرحها. ولا تزال قلعة تدمر التي تعلو التلة مشرفة على آثار المدينة الممتدة، محافظًا على شكلها الذي جعلها مقصدًا للمستكشفين وعلماء الآثار والسياح على مدار القرون.

لكن مع اقتراب الصورة، يكشف الدمار الذي لحق بالمدينة نتيجة الحرب السورية، حيث تعرضت الأعمدة الأثرية للتفجير، وشوه المتطرفون معالم التماثيل، وتحولت معابدها إلى أكوام من الركام. واحتفظت قلعة تدمر بموقعها التكتيكي، حيث استخدمتها القوات الروسية ونظام الأسد، فضلاً عن المتمردين خلال الصراع.

منذ سقوط النظام المخلوع في ديسمبر الماضي، بدأ السوريون وعدد قليل من السياح الأجانب بزيارة تدمر للاطلاع على هذا الموقع التاريخي المميز والتأمل في مستقبله بعد التحرير. في إحدى الزيارات، وصف زياد العيسى، وهو طبيب سوري يقيم في فرنسا، تدمر بأنها “شاهد على حضارة قائمة رغم الدمار، وأن هذه الحضارة تغير الصورة المرسومة في أذهان الناس عن سوريا”.

لكن وبينما يواصل الزوار زيارة المدينة، تسجل أحداث أخرى، مثل الانفجارات الناتجة عن الألغام الأرضية المزروعة أثناء الحرب. وقد سمع الجميع صوت انفجار لغمين أثناء زيارة زياد وأصدقائه للمدينة، مما يذكر بحجم المعاناة التي خلفتها الحرب.

وقد أسفر الصراع السوري عن تدمير العديد من المواقع التاريخية الأخرى في سوريا، مثل أسواق حلب التاريخية والمواقع الأثرية في شمال غربي سوريا، بما في ذلك مدينة أفاميا الشهيرة، حيث استخدم لصوص الآثار أدوات الحفر والتقنيات الحديثة لسرقة الآثار.

تعد تدمر إحدى أبرز المدن الأثرية في العالم، حيث صنفتها اليونسكو عام 1980 ضمن مواقع التراث العالمي. ورغم الدمار الذي طال بعض معالمها الأثرية، لا يزال موقع المدينة مذهلاً، إذ يصعب تصور جماله قبل الحرب. وما يزال المكان يشهد زيارة بعض السوريين والسياح القلائل، وسط النشاط التجاري البسيط من بائعي الحلي والتذكارات.

كانت تدمر في القرن الأول الميلادي واحة للإمبراطورية الرومانية ومحطة هامة على طريق الحرير، كما حكمتها الملكة زنوبيا في فترة من الفترات. وتنوعت أنماط العمارة في المدينة بين الرومانية واليونانية والفارسية، قبل أن تمر بتطورات سياسية عديدة، من الحكم البيزنطي إلى العربي ثم الفرنسي. ومع بداية الحرب السورية عام 2011، تحولت تدمر إلى ساحة معركة بين الثوار والنظام والقوات الروسية والميليشيات المدعومة من إيران.

وفي عام 2015، سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على تدمر وشن حملة ممنهجة لتدمير آثارها، بناءً على اعتقادهم بأن هذه الآثار تدعو للتعبد لآلهة غير إسلامية. فقاموا بتفجير معبد بعل شمين، وأتلفوا العديد من المعالم التاريخية، كما أعدموا مدير الآثار خالد الأسعد، الذي حاول حماية تلك المعالم، وعرضوا جثته بطريقة وحشية على أحد إشارات المرور.

إن تدمر، برغم الخراب الذي لحق بها، ما تزال تمثل إحدى أهم شواهد حضارة الشرق القديم، وتظل صامدة في وجه التحديات، شاهدة على تاريخ طويل من العظمة والدمار.

تدمر: مدينة صمدت لألفي عام
تدمر: مدينة صمدت لألفي عام

بعد مسافة قصيرة تقطعها بسيارتك بعيدًا عن أبرز معالم مدينة تدمر، يظهر لك نفق يهبط بك نحو مدفن تحت الأرض كان قد استخدمه المتطرفون كقاعدة لهم، فتجد أكياس الرمل تحيط بمدخله لحمايته. على جدران النفق، تبرز بعض الكتابات التي تذكر من شغلوه في الماضي، ومنها: “الدولة الإسلامية والنار للمسيحيين”. وهناك كتابة أخرى تحث المقاتلين على الحفاظ على النظام في المكان، حيث جاء فيها: “أخي المجاهد: تعاون مع إخوتك على تنظيف المكان بعد تناول الطعام”.

داخل الغرف، توجد توابيت حجرية مزخرفة بنقوش تظهر شخصيات جالسة في أثواب فضفاضة، لكنها الآن بلا رؤوس.

قبل وصول تنظيم الدولة إلى تدمر، كانت الغرف الداخلية مزينة بلوحات جدارية تصور حيوانات وآلهة مجنحة والرجال المدفونين في تلك السراديب. ومع مرور الوقت، اختفى كل شيء تقريبًا عدا السقف الذي يحمل شكلاً يشبه قرص العسل بألوان الأحمر والأبيض والأخضر، بعدما طُليت بقية النقوش بالدهان الأبيض على عجل.

في وقت لاحق، أسقط الجهاديون قوس النصر الشهير عند بداية الأعمدة الحجرية، كما صوروا مقاتلين وهم يطلقون النار على 25 جنديًا من قوات النظام، مما أدى إلى مقتلهم على منصة المسرح.

في عام 2016، استعاد النظام المدينة بدعم روسي، وفي مايو من نفس العام، أقيمت حفلة موسيقية في المدينة، حضرها شخصيات بارزة، ووصفها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنها تمثل “الأمل في إحياء تدمر كتراث للبشرية”. لكن بعد أشهر، عاد تنظيم الدولة للسيطرة على المدينة وفجر الواجهات الأربع القريبة من الموقع، وهي من أبرز المعالم التي تميزت بصور فوتوغرافية عديدة. وفي عام 2017، استعاد النظام المدينة من جديد.

خلال حديثنا مع البائع المتجول محمد عوض، الذي قضى سنوات طويلة في تدمر، أخبرنا أن المدينة أصبحت غير قابلة للعيش بسبب المعارك المتعددة التي دارت فيها. وأشار إلى مرور مقاتلين من جنسيات مختلفة مثل الأفغان والإيرانيين والروس وحزب الله والشيشان على المدينة.

أما في المناطق الأخرى، فقد كان صراع القوات مستمرًا للسيطرة على تدمر، حيث يعبر الزوار على جسر متهالك بناه الروس للوصول إلى قلعة تدمر، وتحمل القاعات آثار مخلفات القوات الروسية وقوات النظام. من صناديق الذخيرة الفارغة إلى الأحذية العسكرية التالفة، تجد جميع هذه الأدلة على صراع طويل دمر المكان.

في فندق ديديمان الذي كان ملاذًا للمقاتلين الإيرانيين وميليشيا فاطميون الأفغانية، تحولت قاعة المؤتمرات إلى مسجد، وكانت الجدران مليئة بالشعارات باللغة الفارسية، تحفز الجنود على القتال باسم الإسلام. بعد تعرض المبنى للقصف، أصبح المكان خاليًا، فيما تمزق السيارات المهشمة وعلب المشروبات المعدنية في محيط الفندق.

وفيما كان راعي أغنام شاب يُدعى حمادي القاسم يقود قطيعه عبر تلك الأنقاض، أخبرنا أنه وأقرانه لم يتمكنوا من الوصول إلى هذا المكان في فترات الحرب خشية من أن يُقتَلوا.

وفي النهاية، يوضح الباحث عمرو العظم، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط وعلم أصل الإنسان بجامعة شاوني ستيت في ولاية أوهايو الأمريكية، أن السلطات السورية الحالية تفتقر إلى الموارد لإصلاح ما دمرته الحرب في تدمر. لكنه يضيف أن هذا الموقع يبقى جزءًا من التاريخ البشري، وأن كل ما تعرض له من دمار هو جزء من قصته، مشيرًا إلى معبد بعل الذي كان قائمًا هناك لكنه لم يعد موجودًا اليوم.

 

إقراء ايضا:

الرئيس أحمد الشرع يستقبل عضو الكونغرس الأميركي مارلين ستوتزمان في دمشق

اعتقال عناصر الدفاع الوطني في حمص.. واعترافات بعمليات دفن جماعي

رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي يتفقد مواقع في الأراضي السورية المحتلة ويقر خططاً هجومية

العثور على طفل متوفى داخل بئر بعمق 40 متراً شرقي حلب بعد 4 أيام من فقدانه

السلطات السورية تلقي القبض على خلية تجارة مخدرات في اللاذقية

الخارجية السورية تدعو الدبلوماسيين المنشقين لتحديث بياناتهم استعدادًا للمرحلة المقبلة

الصحة السورية تطلق حملة لمتابعة الأطفال المتسربين وتعزيز اللقاحات الروتينية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى