
حوار مع د. برهان غليون
كيف تنظر إلى واقع المعارضة السورية الرسمية الآن؟ خاصة بعد الاستدارة التركية مؤخراً؟
ج: بالتأكيد وضع المعارضة لا يرضي السوريين.
لكنه أحد مظاهر الوضع البائس الذي تعيشه القضية السورية التي خرج فيها مصير البلاد بأجمعها من أيدي أبنائها وأصبح موضع تنازع وتنافس بين دول وميليشيات أجنبية أو مرتبطة بأجندات أجنبية.
والأصل في هذا الوضع هو سياسة الأسد أو نحرق البلد، الذي قاد النظام السوري القائم إلى شن حرب همجية وإبادية ضد الشعب السوري ودمر البلاد فصار حارساً على باب الاحتلال.
ونحن جميعنا مسؤولون عن استمرار هذا الوضع وعن ضعف مؤسسات المعارضة أيضاً.
كيف يرى الدكتور برهان غليون الفيدرالية واللامركزية بسوريا؟
ج: في الأصل تنشأ الدولة الفدرالية للجمع بين دول مستقلة مختلفة وأحياناً بين شعوب مختلفة تريد أن توحد فضاءها الجيوسياسي من اجل توسيع سوقها الاقتصادي وقدرتها على تحقيق الرفاه والأمن لشعوبها وتحسين مركزها على خارطة توزيع القوة العالمية. وأول من اخترع الدولة الفدرالية هي الولايات المتحدة الامريكية التي كانت دولا شبه مستقلة خاضعة كل منها للسيادة البريطانية، ووجدت أن من الأفضل لها أن تحافظ على وحدتها الاقتصادية والسياسية بدل أن تتفرق إلى دول عديدة.
وتحتفظ الحكومة الاتحادية بسلطات واسعة فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية والمالية والعسكرية والخارجية تعبيراً عن سيادة الدولة ووحدتها.
في المقابل فكرة اللامركزية تعززت في العقود الماضية من أجل إعطاء فرص أكبر للجماعات الإقليمية للمشاركة في تنمية مناطقها.
وسمحت بعض الدول، في العديد من المناطق التابعة لها بإنشاء مجالس محلية ذات صلاحيات موسعة أو حتى إقامة مؤسسات تمثيلية وانتخابات للمحافظين أو حكام المناطق.
وقد بدأت كل الدول الأوروبية القومية في صيغة مركزية تركزت فيها الجهود على بناء دولة حديثة ومؤسسات سياسية تنفيذية وتشريعية وقضائية متينة وراسخة، ولم تظهر مطالب اللامركزية فيها الا منذ وقت قريب بعد رسوخ المؤسسات ونمو ثقافة المواطنة واحترام القانون وتطور تقاليد ديمقراطية قوية.
وكثيراً ما كانت المبادرة من الدولة المركزية نفسها التي أرادت أن تدفع إلى توسيع سلطات المناطق لإنعاش الديمقراطية وإعطاء دفع أكبر للمشاركة السياسية التي اخذت تتراجع في بعض البلدان.
وليس هناك دليل على أن أداء الدول الفدرالية كان أفضل من الدول المركزية ولا العكس أيضاً، لا في ميدان التنمية السياسية ولا التقدم الاقتصادي والتقني والتنمية الاجتماعية ولا ممارسة الحريات واحترام حقوق الإنسان.
فالصين دولة مركزية خاضعة لسلطة حزب واحد، وهي لا تقل إنجازاً في ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية عن الولايات المتحدة التي هي دولة فدرالية. وهذا هو الحال في ميدان ممارسة الحريات الديمقراطية. ففرنسا الدولة الأشد مركزية في أوروبا لا تقل ديمقراطية عن المانيا الدولة اللامركزية أو الفدرالية منذ خسارتها الحرب العالمية الثانية.
ينبغي أن نفكر بشكل الدولة، فدرالية أو مركزية أو لامركزية، انطلاقا من شروطنا واوضاعنا الخاصة واقتناعنا كشعب بالصيغة التي نعتقد انها الأكثر ملاءمة وفائدة لنا لتحقيق الأهداف الأساسية التي تسعى اليها شعوبنا كشعوب الأرض قاطبة، وهي اليوم التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والأمن الداخلي وبشكل خاص الخارجي، أي تحقيق السلام لشعوبها، والديمقراطية وما تعنيه من احترام الحريات الأساسية الفردية والجماعية للناس.
فمن هذا المنطلق وعلى هذا الأساس ينبغي أن نفكر نحن أيضاً في سورية المستقبل، ونختار النظام السياسي الملائم لتحقيق هذه الغايات الكبيرة. بمعنى آخر المركزية واللامركزية مشكلة براغماتية وليست مبدئية، وبراغماتية تعني اختيار الحل الاصلح والذي يتوافق عليه الشعب بأغلبيته الانتخابية لتحقيق الغايات المنشودة.
وعلى جميع الأحوال لا ينبغي أن نخلط بين الفدرالية أو اللامركزية والديمقراطية.
فاستبداد النظام السوري لا ينبع من كون الدولة السورية مركزية، فقد كانت كذلك قبل مجيئه، وإنما من طبيعة نظام الحكم الذي ولد مع سيطرة حزب البعث على السلطة واصداره دستورا ينص بمادة من مواده على أن حزب البعث قائد للدولة والمجتمع، مما يعني انه جرد دستوريا الشعب من سيادته وجرد المواطنين من حقوقهم بل الغى المواطنة واحل محلها الولاء والمحسوبية الطائفية أو الشخصية، وسن قانون التمييز العنصري بين افراد الشعب الواحد، فصار هناك من هو صاحب أهلية وطنية من الموالين والمصفقين ومن هم فاقدو الاهلية والحقوق السياسية واحيانا المدنية.
وهو ما لم يحصل حتى في دساتير الدول الشيوعية القديمة.
وما لبث حتى تحول إلى نظام حكم عائلي وصار اسم سورية رسمياً: سورية الأسد. وتحولت البلاد إلى ملكية مطلقة متخلفة شبيهة بملكية الاقطاعيين في القرون الوسطى حيث كان السيد الإقطاعي مالكاً للأرض وللاقنان العاملين فيها وله الحق في تسييرهم وقتلهم إذا أراد من دون أن تترتب عليه أي مسؤولية.
لهذا لم يكن لسكان دمشق الحق في المشاركة في السلطة اكثر من سكان الحسكة أو السويداء أو ادلب. جميعهم كانوا غرباء ولاجئين أو عبيد مملوكين في ما كان ينبغي أن يكون وطنهم الذي يحميهم ويمكنهم من حقوقهم ويساعدهم على التقدم في تأهيلهم المهني والعلمي وحياتهم. بل لقد كان الدمشقيون اكثر تعرضا للتمييز السلبي والتهميش لان وجودهم في مركز السلطة يجعلهم اكثر قدرة على التأثير وبالتالي اجدر بالمراقبة والإذلال والاضطهاد والترويع. وبالمثل لم يمنع كون روسيا دولة فدرالية واسمها الاتحاد الروسي من أن تعيش في ظل حكم فردي شبه مطلق أيضاً، وان لا يكون للحريات الفردية والحقوق الإنسانية فيها اي اعتبار. وها هو العراق، دولة فدرالية، بعد أن كان ديكتاتورية قاسية.
لكن فدراليته لم تجعله اكثر ديمقراطية ولا مكنت العراقيين على مختلف طوائفهم وقومياتهم من المشاركة في حياة البلاد السياسية ولكنها سلمت العراق إلى الاحتلال الإيراني بعد رحيل قوات الغزو الامريكية واقامت في ظل هذا الاحتلال نظام المحاصصة السياسية ووزعت البلاد ومواردها إقطاعات على زعماء الميليشيات والطوائف والعشائر، وتركت العراقيين يعيشون في حالة مزرية من البؤس والجوع والبطالة واليأس لا يتوقفون فيها منذ ثمانية سنوات عن الانتفاضات لاسترجاع حقوقهم من دون تحقيق اي انجاز واعد في هذا المجال.
وبالنسبة لموقفي الشخصي، لو خيرت الآن لاخترت لسورية القادمة شكل الحكومة المركزية، على الأقل في المرحلة الأولى، من اجل بناء مؤسسات سياسية وقانونية سليمة والقضاء على حكم الميليشيات وتعزيز مكانة الدولة وامنها واستقلالها، وفي مرحلة ثانية يمكن توسيع سلطة الأقاليم بحيث يكون للجماعات المحلية دور أكبر في إدارة شؤونها.
واخشى اننا لو طبقنا الفدرالية مسبقا ومن دون ترسيخ اركان الدولة وسلطة القانون، وبناء مؤسسات تنفيذية وسياسية وتشريعية وقضائية قوية وفاعلة، ومن دون مشاورات شعبية ونقاش وطنيين يشارك فيهما الشعب السوري كله ويقتنع باختياره، أقول أخشى أن تكون الفدرالية تكريسا لسلطات الامر الواقع، وهي جميعها اليوم، في المناطق المختلفة، سلطات ميليشاوية تخضع لأحزاب أو هيئات أو زعامات تحتكر السلطة ولا تؤمن لا بديمقراطية ولا بدور الشعب ولا يحقق المواطنة المتساوية وحقوق الافراد ولا تقيم اعتبارا لمصالحهم وكرامتهم، وتعتبر الحريات خطرا على وجودها. وعندئذ سنخسر الدولة، ونخسر الأقاليم، ونخسر التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي هي جوهر الاجتماعات السياسية المعاصرة، ونخسر الامن والسيادة، لتصبح كل منطقة مركز نفوذ لأمراء الحرب وللدولة الأجنبية التي تدعمها.
اي انه سيكون لدينا عدد أكثر من اشباه دول لا تختلف في ادارتها عن إدارة دولة الأسد لكن في صور أشد ركاكة وتأزما ونزوعا إلى العنف والاقصاء والقمع، واحوالا معيشية لا تختلف عن الأحوال العراقية.
سوريا إلى أين ماضية؟ كيف ترى مستقبل الشعب السوري في المستقبل المنظور على الأقل؟
ج: مستقبل سورية يتوقف على سلوك واختيارات النخب السياسية والعسكرية التي لا تزال تتحكم بجزء من السلطة والموارد في المركز أو في المناطق المتباعدة وشبه المستقلة عنه. وجميعها لا تزال مهووسة بإعادة بناء نظام على شاكلة الأسد في هذه المناطق التي تسيطر عليها، وتعتقد مثله أن سيطرتها على مناطقها تساوي ملكيتها لها، بارضها ومواردها والبشر المقيمين عليها، وهي حرة حرية مطلقة بالتصرف فيها وتحديد مصير أبنائها كما تراه مناسبا لها. وسوف نتحول جميعا إلى أقنان لا يراعي من يحكمنا فيها لا اعتبارا سياسيا ولا أخلاقياً ولا حرمة لحياة أي واحد يعيش على أراضيها. وجميع هؤلاء الحاكمين الصغار ينتظر أول فرصة كي يستقل بنفسه وينتزع الاعتراف من الدول التي لها مصلحة في دعمه، ليضع نفسه في خدمتها. وكلهم يتقنون اللعب على مشاعر الناس ومظلومايتهم الدينية أو المذهبية أو القومية أو المناطقية ليرسخوا اركان إماراتهم، ولا يهمهم مصير مواطنيهم/أقنانهم من قريب أو بعيد. وجميعهم يأملون أن يرحل عنهم أكثر ما يمكن من السكان حتى يتفرغوا لنهب ما تبقى من موارد وتجييرها لحساباتهم الشخصية. أما المستقبل فهو يتوقف على صحوة الشعب السوري أو من سوف يبقى حيا من بين افراده على الأرض السورية. وبعد أن يكتشف هواة الامارات المستحيلة خداع “أمرائهم” وسوء نية مسيلماتهم وكذبهم سوف يرتدون عليهم، كما يرتد اليوم العراقيون على مضطهديهم الذين سيدوا أنفسهم عليهم. وستكون معارك ومجاز عنيفة على شاكلة ما شهدناه في مناطقنا المنكوبة.
ما تأملاتك أو توقعاتك عن الأوضاع في سوريا؟
ج: تفاقم الأزمة وتدهور الأوضاع في جميع المناطق.
كيف ترى الدور الروسي بسوريا وما تداعياته مستقبلاً؟
ج: كما يراه الروس انفسهم، اي مستعمرين جدد متخفين خلف الجثة السياسية لرئيس قاتل يجهدون دون كلل ولا ملل لإثبات شرعيته وإعادة تأهيله من دون جدوى، ولا يهمهم لا مصير السوريين ولا مستقبل بلادهم.
كيف ترى الدور الإيراني بسوريا والمنطقة عموماً؟ وما تبعات الاتفاق النووي الإيراني -إن تم- على سوريا والمنطقة عامة؟
ج: صار من الواضح خلال العقدين الماضيين أن سياسة طهران في المنطقة هي التخريب بالمعنى الشامل للكلمة، تخريب الدول والاقتصاد والسياسة والقانون والمؤسسات بما فيها العسكرية، وتحويل البلدان التي تحتلها، أو تنخرها بحرسها الثوري وميليشياتها المحلية من المرتزقة، إلى هشيم يسهل ابتلاعه. لكن، في النهاية، سوف تختنق سلطة ولاية الفقيه في المستنقع الذي صنعته بيديها ولن يبقى من مشروعها الإمبراطوري الا الذكرى البائسة والحزينة لأمة إيرانية كبيرة ضلت طريقها.
وهذا سواء تم التوقيع على الاتفاق النووي ام لا.
كيف ترى التدخل الصيني بسوريا، هل يجر البلاد إلى هلاك اقتصادي دون أجل مسمى؟
ج: لا اعتقد أن الصين جاهزة في هذه الحقبة للتدخل في سورية على اي صعيد كان.
لكن بالتأكيد سيكون لها دور اقتصادي كبير عندما تنتهي الحروب المتوازية والمتقاطعة التي تخترق المنطقة في كل الاتجاهات.
هل يمكن للدول العربية وخاصة دول الخليج أن يقوموا بتعويم الأسد في سبيل إنقاذ المنطقة من خطر التمدد الإيراني وذلك وفقا لمصالحهم السياسية؟
ج: السؤال: هل يريد الأسد فعلاً تعويم نفسه؟ ولو أراد ذلك هل هو قادر عليه؟ الأسد اصبح كذبة لا احد يصدقها، لكن الجميع يستخدمونها للتغطية على أهدافهم الحقيقية. وبالنسبة لدول الخليج، لا اعتقد انها بعيدة عن ادراك ذلك.
لننتقل إلى الوضع بالمنطقة بشكل عام، كيف تفسر الأزمة السياسية الحالية في العراق اليوم؟
ج: هي تعبير فاضح عن فشل النظام السياسي الذي ولد من اسقاط نظام صدام حسين، والذي أراد الامريكيون من خلاله أن يجهزوا نهائيا على العراق كدولة وشعب، ويحولوه إلى مقبرة لأبنائه وساحة حرب بين الطوائف والمذاهب والاقوام لا نهاية لها ولا حل. إنه نظام المحاصصة وتقاسم السلطة والمال بين الزعماء والاتباع والموالين على حساب العراقيين بجميع ولاءاتهم وانتماءاتهم. ولا حل لمأساة العراقيين الا بإسقاط النظام السياسي القائم وبناء نظام وطني تنبثق السلطة فيه عن الشعب، ممثلا بالناخبين، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والقومية، لا عن تفاهم زعماء المافيات والميليشيات والعصائب والحشود والمرجعيات.
الوضع اللبناني متدهور على عدة مستويات، كيف يتجه الوضع هناك وفق منظورك؟
ج: بلد مخرب ودولة معطلة وشعب مهجر أو على طريق التهجير. لبنان هو ما تريد ايران وبعض مشغليها أن يكون مستقبل كل الأقطار العربية المشرقية.