أخبار سياسية

العدالة الانتقالية في سوريا: هل يمكن تطبيق النموذج الألماني؟

العدالة الانتقالية في سوريا: هل يمكن تطبيق النموذج الألماني؟تعدّ “العدالة الانتقالية” من أبرز التحديات التي تواجه الدول التي شهدت جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية على يد أنظمة استبدادية أو خلال الحروب والنزاعات المسلحة، حيث تترك آثارًا مدمرة تنعكس بشكل كارثي على شعوبها في جميع المجالات. وسوريا، التي شهدت إحدى أسوأ حالات العنف والتعقيد في عهد نظام الأسد المخلوع، بحاجة ماسة اليوم إلى إيجاد حل حقيقي يخرج مواطنيها من دوامة الفوضى التي خلفها ذلك النظام، وصولًا إلى مرحلة البناء والمواطنة الحقيقية، وهي المرحلة التي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر آلية انتقال عادلة.

رغم الصعوبات والتعقيدات التي واجهتها وتواجهها آليات تطبيق العدالة في مختلف الدول، تمكنت معظمها من تنفيذها بطرق تتناسب مع ثقافات شعوبها ووعيها الاجتماعي والسياسي، مما ساعدها على الانتقال بسلام من العنف إلى الاستقرار والمواطنة، دون التركيز بشكل متشدد على ملاحقة الأطراف المسؤولة عن العنف والانتهاكات، وفقًا لآليات العدالة الانتقالية.

لكن إذا استثنينا التشدد في تطبيق مبدأ “المحاسبة” في الحالة السورية، ولجأنا إلى دراسة تطبيق باقي الآليات المتاحة ضمن مفهوم العدالة الانتقالية، فما هي الآليات التي يمكن تطبيقها في سوريا؟ وهل تنطبق عناصرها على مرتكبي الجرائم بحق السوريين؟ قبل الإجابة عن ذلك، نعرض تجربة تاريخية مهمة في العدالة الانتقالية، وهي التجربة الألمانية بعد انهيار جدار برلين، التي ساهمت في تجنب صراعات دموية داخل ألمانيا بعد توحيد شطريها.

النظام الألماني الشرقي والنظام السوري: مقارنات وتقاطعات
انهار جدار برلين في 9 تشرين الأول/نوفمبر 1989 بعد 28 عامًا من تشييده، ليعلن بداية انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي كان قد وصل إلى ذروته العسكرية بفضل السيطرة السوفييتية على برلين بعد الحرب العالمية الثانية. وكان الجدار قد فصل بين ألمانيا الشرقية التي كانت تحت السيطرة السوفييتية وألمانيا الغربية التي كانت تحت إشراف القوى الغربية، ما جعل الوضع السياسي والاجتماعي في الشرق يشهد قمعًا استبداديًا على يد “الحزب الاشتراكي الألماني الموحد”.

جهاز الأمن الألماني (شتازي) والنظام السوري
في هذه المرحلة، كانت ألمانيا الشرقية تحت حكم جهاز أمني قوي يدعى “شتازي”، والذي كان يضم أكثر من 150 ألف عنصر من جميع شرائح المجتمع. هذا الجهاز كان مماثلاً في بعض وظائفه لجهاز المخابرات السورية في عهد النظام المخلوع. حيث كان كلا الجهازين يعتمد على عناصر مدنية وعسكرية لمراقبة المجتمع وفرض السيطرة، مما أدى إلى ارتكاب انتهاكات واسعة بحق المدنيين والمعارضين. وكان المخبرون في ألمانيا الشرقية كما في سوريا يشكلون جزءًا أساسيًا في تقديم التقارير الأمنية والوشايات، مما ساعد الأنظمة في ملاحقة المتظاهرين والمعارضين.

الانتهاكات ونتائجها
كان جهاز “شتازي” يقوم بممارسات وحشية ضد المدنيين، من الاعتقالات والتعذيب والتصفية الجسدية، وهي ممارسات مماثلة لتلك التي ارتكبها النظام السوري في سجونه، مثل سجن “صيدنايا” الذي شهد إعدام نحو 13 ألف معتقل. ورغم مرور ما يقرب من 37 عامًا على انهيار جدار برلين، لا يزال الألمان الشرقيون يحتفظون بذكريات مريرة عن الانتهاكات التي جرت في سجونهم، مثل سجن “باوتسن”، الذي شهد حالات تعذيب وقتل لا تزال آثارها غامضة إلى اليوم.

العدالة الانتقالية في سوريا
بناءً على هذه المقارنات، يمكن استنتاج أن تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا يتطلب مواجهة قسوة التاريخ الأمني ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، ولكن في إطار يراعي خصوصية المجتمع السوري وتاريخه.

كيف تم التعامل مع جهاز “الشتازي” بعد توحيد ألمانيا؟

بعد الانتهاكات الواسعة التي ارتكبها جهاز “الشتازي” بحق مواطني ألمانيا الشرقية طوال ما يقارب ثلاثة عقود، كيف جرى التعامل مع عناصره بعد انهيار جدار برلين في عام 1989، وما تلاه من الوحدة الألمانية في أغسطس 1990؟

في هذه الحالة، لا يمكننا تقديم إجابة دقيقة بمجرد التخمين، لذا سنستعرض تجربة العدالة الانتقالية التي تم تطبيقها في النموذج الألماني بعد تلك الفترة.

في منتصف عام 1990، جرت انتخابات عامة حرة في ألمانيا الشرقية، ونتج عنها تشكيل تحالف “من أجل ألمانيا”. تلا ذلك موافقة المجلس الاتحادي على انضمام جمهورية ألمانيا الشرقية إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية، ليحدث التوحيد السلمي بين الشطرين. خلال هذه الفترة، دعا العديد من الشخصيات الحقوقية والإعلامية وبعض المؤسسات المدنية إلى محاسبة مرتكبي الجرائم من جهاز “الشتازي”، حيث كانت قوائم تحمل أسماء الآلاف من عناصر “الشتازي” معروفة لدى مواطني الشطر الشرقي. تم تقديم هذه القوائم للسلطات القضائية والحكومية لملاحقة المذنبين، وتطبيق “العدالة الانتقالية” بحقهم.

لكن حكومة ألمانيا الاتحادية، التي كان يرأسها المستشار “هلموت كول”، عملت على تبني نهج غير معلن يسمح بمنح عناصر “الشتازي” فرصة للتغيير مع مرور الزمن. وهذا تم من خلال تسهيل انتقالهم من مدنهم الشرقية إلى باقي الولايات الألمانية للبدء بحياة جديدة، مع منحهم فرصة لاختيار أسماء جديدة لأنفسهم.

على الرغم من استمرار احتجاج بعض الأطراف على غياب المحاسبة، فإن أغلب الشعب الألماني اتجه إلى التغاضي عن مبدأ المحاسبة، وتكيف بسرعة مع فكرة التغيير الزمني. طبّق هذا المبدأ على الغالبية العظمى من العاملين في مؤسسات الحكومة الشرقية، حيث كانوا يعتبرون من الطبقة الأضعف في جهاز “الشتازي” وكانوا مجبرين على العمل ضمنه بسبب الخوف والمصلحة الشخصية. أما الشخصيات العليا في الجهاز الذين ارتكبوا انتهاكات كبيرة، فقد فرّ العديد منهم من ألمانيا خوفاً من الملاحقة القانونية، في حين تم محاكمة القلة المتبقية، وتمت معاقبة بعضهم بينما تم الإفراج عن آخرين.

نجح هذا النهج في تطبيق سياسة التغيير والاندماج بسرعة قياسية، حيث ساهم مستوى الوعي الاجتماعي والسياسي في ألمانيا في دعم المصلحة الوطنية على حساب المصالح الفئوية أو الفردية. وبعد فترة قصيرة من التوحيد، أصبح الشطر الشرقي مشابهًا تماماً للجانب الغربي من حيث الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية.

هل يمكن تطبيق النموذج الألماني على سوريا؟

العدالة الانتقالية في سوريا: هل يمكن تطبيق النموذج الألماني؟

قبل التفكير في تطبيق تجربة العدالة الانتقالية الألمانية على سوريا، يجب الإشارة إلى نقطتين هامتين:

  1. لا توجد إحصائيات دقيقة لعدد ضحايا “الشتازي” بسبب إتلاف معظم الملفات والوثائق المتعلقة بهم، لكن الأعداد تبقى أقل بكثير من ضحايا النظام السوري.
  2. جهاز “الشتازي” أشرف على تدريب وتوجيه خدمات المخابرات السورية خلال عهد حافظ الأسد وحزب البعث، مما يعني أن الأساليب المستخدمة في التعذيب والقتل كانت متشابهة بين النظامين.

أما بالنسبة لتطبيق النموذج الألماني في سوريا، فالإجابة ليست بسيطة. من غير الممكن تطبيق هذا النموذج إلا بعد تحقيق انتقال حقيقي إلى نظام ديمقراطي في سوريا يضمن حقوق المواطنين ويحقق الأمان. فالنموذج الألماني كان قد تم تطبيقه في ظل حكومة ديمقراطية مستقرة، وهو ما لا يتوفر في سوريا بعد.

إضافة إلى ذلك، يعتبر المجتمع السوري مختلفًا تمامًا عن المجتمع الألماني في ذلك الوقت من حيث التفاوت الفكري والثقافي بين شرائحه، والنزاعات الطائفية والمذهبية، وأيضًا تعدد التيارات السياسية التي تحولت إلى صراعات دموية. لذا، يصبح من الصعب تطبيق التجربة الألمانية في سوريا بسبب هذه الفروق الجوهرية.

وعلى الرغم من هذه العقبات، فإن استئصال المعوقات السياسية والاجتماعية يمكن أن يفتح المجال أمام السوريين لطرح مشروعهم الوطني المستند إلى العدالة الانتقالية أو حتى “المسامحة الانتقالية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى