برنامج إيران النووي وتأثيره الإقليمي:أفادت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن الهجمات الجوية الإسرائيلية، التي تهدف إلى منع إيران من امتلاك سلاح نووي، لم تؤثر بشكل كبير على المنشآت النووية الإيرانية. ويجري الحديث هنا عن سباق تسلح نووي بين عدة دول واجهت تهديدًا وجوديًا مفترضًا، في مشهد مشابه لمسار امتلاك القنبلة لدى خمس دول بعد صراعات دامية.
إسرائيل اتبعت منذ أواخر الستينيات سياسة “الغموض النووي” والتي تستند إلى ما يُعرف بـ”خيار شمشون”، وهو الردع النووي كخيار أخير إذا ما واجهت تهديدًا وجوديًا. أما إيران فاتبعت نهجًا مختلفًا، بتطوير برنامج نووي متقدم دون تحويله إلى برنامج سلاح فعلي، محافظًة على “العتبة النووية” كوسيلة ضغط دولية وموقع أمني دون تفعيل السلاح.
وقد قمعت إسرائيل سابقًا برامج نووية للدول التي رأت أنها تهديد، مثل العراق عام 1981 وسوريا عام 2007، وساعدت في وقف النشاط النووي الليبي عام 2003.
من جهتها، أسفرت الهجمات الأخيرة عن تضرر محطة نطنز بشكل ملحوظ، إذ دُمّرت أو تعطلت نحو 15 ألف طرد مركزي حسب الوكالة، فيما تأثرت منشآت في أصفهان أيضـًا، لكن مجمع فوردو، المحصن تحت الجبل، ظل يقلص من الأضرار.
مسارات الدول نحو القنبلة النووية:
خمس دول من خارج الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن – هي كوريا الشمالية، الهند، باكستان، إسرائيل، وجنوب إفريقيا (التي أنهت برنامجها لاحقًا) – سلكت طريق التسلح النووي بدافع ما اعتبرته تهديدات وجودية. وقد اتسمت تجارب هذه الدول بأزمات عسكرية، وضغوط دولية، وتشابكات سياسية معقدة. ومع ذلك، نجحت جميعها في امتلاك القنبلة النووية.
تفاصيل المسار الإسرائيلي
بدأت إسرائيل مشروعها النووي في أواخر الخمسينيات بدعم فرنسي تجاه مفاعل ديمونة، وسرّته عن الولايات المتحدة حتى أواخر الستينيات. وبحلول 1969، وصلت إلى القدرة التقنية على امتلاك قنبلة نووية، وفق تقييم أجهزة الاستخبارات الأميركية.
وتعاونت إسرائيل مع الولايات المتحدة حين تقف الضغوط على برنامجها مقابل التزامها بالسرية، ما أتاح لها الحصول على معدات متطورة دون الكشف عن برنامجها النووي. خلال السبعينيات، وُجد حديث عن اختبارات نووية سرية وتعاون مع جنوب إفريقيا، رغم عدم تأكيد رسمي بذلك. وبمرور الزمن، كوّنت إسرائيل ترسانة نووية صغيرة تعتمد على الردع دون إعلان رسمي أو انضمام لمعاهدة منع الانتشار.
إيران ومسار “العتبة النووية”
بدأ البرنامج النووي الإيراني في عهد الشاه، وتوقّف مؤقتًا بعد الثورة عام 1979. لكن حرب الثماني سنوات مع العراق دفعت إيران في التسعينيات لإعادة تفعيل البرنامج، مدفوعة بحاجتها إلى ردع لحماية النظام. طورت إيران قدراتها لحدود التخصيب والإنشاءات النووية دون تصنيع قنبلة، متمسكةً بالعتبة النووية.
على الرغم من العقوبات الدولية التي بدأت عام 2006، والتفتيشات الدولية، وعمليات التخريب مثل فيروس “Stuxnet”، حافظت إيران على برنامجها. وتوصلت في 2015 إلى اتفاق “الخطة الشاملة المشتركة”، ما قلل من بعض نشاطاتها مع رفع جزئي للعقوبات، لكن الولايات المتحدة انسحبت منه عام 2018، فعادت إيران لتعزيز نشاطات التخصيب. ومع ذلك، لا تزال تؤكد سلمية برنامجها رسميًا.
تلخيص الموازين الدولية
يتصدّر البرنامج الإيراني المواجهة في الملف النووي العالمي اليوم، لكنه لم يتجاوز بعد مرحلة العتبة. بينما إسرائيل تواصل سيرها على سياسة الغموض النووي، والتهديد باستخدام الردع عند الضرورة، دون اعتراف رسمي أو اختبار علني. وهذا المسار يكرّس الفجوة في الموضوع النووي بالشرق الأوسط، حيث تمتلك دولة سرية السلاح وتعوّل إيران على “العتبة” كورقة دون مغامرة برفض عواقب خطيرة.
إقليميًا، أدى تقدم إيران في برنامجها النووي إلى اندلاع سباق نفوذ إقليمي غير مباشر. فقد ضغطت دول الخليج العربية، وخاصة السعودية والإمارات، على واشنطن لكبح طموحات إيران، ملوحة بأنها قد تلجأ لامتلاك قدرات نووية إذا حصلت إيران على السلاح. أما إسرائيل، فقد رأت أن أي اتفاق دولي يسمح لإيران بمواصلة تخصيب اليورانيوم يشكل “تهديدًا وجوديًا مؤجلًا”، واتفق ضمنيًا مع الدول العربية على ضرورة منع إيران من الحصول على القنبلة النووية. أنشأت دول المنطقة تحالفات ضغط مثل المنتدى الأمني الإقليمي لمواجهة ما اعتبرته “التهديد النووي الإيراني”. في المقابل، تحفظت تركيا لكنها أعلنت رفضها لسباق تسلح إقليمي. عمومًا، أدت الأزمة الإيرانية إلى طرح فكرة إخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية في المحافل الدولية، إلا أن إسرائيل، القوة النووية الفعلية الوحيدة في المنطقة، رفضت الانضمام لأي ترتيبات قبل تحقيق السلام. وظلت المنطقة في حالة توتر استراتيجي مستمرة؛ فإيران لم تحصل على السلاح، لكن امتلاكها للمعرفة والبنية التحتية المتقدمة أبقى جيرانها في حالة قلق دائم.
كوريا الشمالية: برنامج نووي تحت ضغط التهديد الوجودي
نشأ الطموح النووي لكوريا الشمالية نتيجة شعورها المستمر بالتهديد الوجودي. بعد الحرب الكورية (1950–1953) وتقسيم شبه الجزيرة، تبنت بيونغيانغ سياسة لبناء قدرات دفاعية قصوى. في بداية الستينيات حاولت الحصول على دعم سوفييتي وصيني لبناء برنامج نووي عسكري، لكن موسكو وبكين رفضتا، وقدمتا فقط دعمًا للبرامج السلمية. بعد نجاح الصين في اختبار قنبلة ذرية عام 1964، كررت كوريا الشمالية طلب الدعم لكنها قوبلت بالرفض. لذا، اتجه كيم إيل سونغ إلى تطوير برنامج نووي محلي باستخدام مفاعل يعمل بالغرافايت لإنتاج البلوتونيوم في يونغبيون بنهاية السبعينيات بهدف تقليل الاعتماد الخارجي. بحلول منتصف الثمانينيات، كان المفاعل جاهزًا. في 1985، وافقت كوريا الشمالية تحت ضغط موسكو على الانضمام لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT) مقابل الحصول على مفاعلات طاقة سوفييتية، لكنها ماطلت في تطبيق إجراءات التفتيش.
مع تفكك الاتحاد السوفييتي نهاية الحرب الباردة، شعرت كوريا الشمالية بانكشاف أمني حاد، إذ فقدت حليفها الأكبر، وأقامت روسيا والصين علاقات دبلوماسية مع كوريا الجنوبية. في 1990–1991 طالبت كوريا الشمالية بضمانات أمنية أمريكية ورفع التهديد النووي الأمريكي من شبه الجزيرة كشرط للامتثال للاتفاقات. سحبت الولايات المتحدة أسلحتها النووية التكتيكية من كوريا الجنوبية أواخر 1991، ورحبت بيونغيانغ بذلك وأبدت استعدادها لتوقيع اتفاقات الضمانات. في يناير 1992 أبرم إعلان مشترك لنزع السلاح النووي، حيث تعهد الشمال والجنوب بعدم تطوير أسلحة نووية ومنع التخصيب وإعادة المعالجة. لكن الأجواء التفاؤلية تلاشت مع كشف عدم شفافية كوريا الشمالية خلال عمليات التفتيش 1992–1993، حيث اكتشفت مواقع سرية ومواد مفقودة، ما أثار الشكوك حول أنشطة عسكرية نووية مخفية. عندما طالبت الوكالة الدولية بتفتيش خاص لمواقع مشبوهة، أعلنت كوريا الشمالية في مارس 1993 نيتها الانسحاب من معاهدة NPT، مما أدى إلى أزمة نووية خطيرة. تصاعد التوتر إلى حد استعداد القوات الأمريكية والكورية الجنوبية للحرب، وردت بيونغيانغ بتحذير بأن شبه الجزيرة “على شفا حرب”. رفضت الصين دعم عقوبات أممية صارمة خوفًا من انهيار النظام، فيما لوحت واشنطن بخيار عسكري. في النهاية هدأت الأزمة بوساطة دبلوماسية من الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، وتم توقيع اتفاق إطار في أكتوبر 1994 جمد برنامج البلوتونيوم مقابل مساعدات في الطاقة وتطبيع العلاقات.
واجهت كوريا الشمالية ضغوطًا وعقوبات دولية متزايدة، فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها بعد انكشاف برنامجها السري في التسعينيات. شكّل مجلس الأمن قرارات عقابية عقب كل تجربة نووية أو صاروخية. رغم دعم الصين الجزئي للعقوبات، تجنبت بكين الضغط الذي قد يهدد النظام خوفًا من تداعياته. حصلت بيونغيانغ على دعم تقني غير مباشر من شبكة عبد القدير خان الباكستانية لتهريب معدات تخصيب اليورانيوم، وبدأت في أواخر التسعينيات بتلقي مساعدة لتشغيل برنامج تخصيب موازٍ. كما تبادلت تكنولوجيا الصواريخ مع باكستان مقابل تقنيات نووية. بالرغم من العقوبات، استطاعت كوريا الشمالية الصمود وتطوير ترسانتها لتصبح القوة النووية التاسعة عالميًا.
باكستان: سباق نووي تحت شعار “لن تتكرر الهزيمة”
بدأ برنامج باكستان النووي كرد فعل لهزيمة 1971 التي أدت إلى انفصال شرق باكستان (بنغلاديش) وخسارة نحو 90 ألف جندي أسيرًا لدى الهند وضياع نصف البلاد، وهو ما شكل صدمة كبيرة للمؤسسة الباكستانية. بعد الحرب، تعهد رئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو عام 1972 بعدم السماح بتكرار الهزيمة حتى لو اضطر الشعب لـ”أكل العشب” من أجل القنبلة النووية. أطلق بوتو مشروعًا سريًا لتطوير السلاح النووي كضمانة أمنية ضد الهند. جاءت تجربة الهند النووية عام 1974 لتؤكد مخاوف باكستان ودفعها لتسريع جهودها. في أواخر السبعينيات، تمكن العالم عبد القدير خان من سرقة تقنية أجهزة الطرد المركزي من أوروبا، مما مكن باكستان من بدء تخصيب محلي.
شهدت العلاقة مع الهند عدة أزمات عسكرية كأزمة “برازتاكس” عام 1987 وأزمة كشمير عام 1990، حيث لوّحت باكستان بقدراتها النووية الناشئة لردع الهند. في مايو 1998، بعد تجارب الهند النووية، أجرت باكستان خمسة تفجيرات نووية مؤكدة امتلاكها للسلاح، لتعلن نفسها قوة نووية للحفاظ على التوازن الاستراتيجي.
رُوج للبرنامج النووي باكستانيًا ضمن إطار قومي إسلامي أطلق عليه “القنبلة الإسلامية”، لكن في الواقع كان سلاح بقاء ضد الهند. قال المسؤولون مرارًا إن الردع النووي يحمي باكستان من جار أكبر وأعدى. أكد عمران خان في 2021 أن البرنامج وفر الأمن في مواجهة جار نووي عدواني أكبر. إلى جانب الأمن، اعتُبر السلاح النووي رمزًا للعزة الوطنية والقدرة العلمية، وساهم في توحيد الهوية الوطنية المتصدعة ومنح المؤسسة العسكرية نفوذًا أكبر كحامية القوة النووية الإسلامية الأولى.